تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

غزة: مسؤول أممي يصف مشاهد مروعة لجثث متناثرة وجوع ويأس محكمين

قام رئيس الاتصالات الطارئة في برنامج الأغذية العالمي، جوناثان دومونت، بزيارة العديد من مناطق الصراع في جميع أنحاء العالم، لكن ما رآه خلال زيارته الأخيرة إلى غزة كان على "نطاق مختلف". لقد حُفرت صور الموت والدمار والجوع واليأس في ذاكرته بعد عشرة أيام فقط فيما وصفه بأنه "جبل من الأنقاض"، فما هو حال الأطفال الذين تحملوا 16 شهرا من الحرب المستمرة، وماذا سيحدث لجيل فقد الغالي والنفيس؟

بقلمه في هذا المقال، يعطي السيد دومونت صوتا "لأولئك الذين ما كان ليُسمَع صوتهم"، ويصف المشاهد المروعة التي رآها في قطاع غزة:

"أنا بحاجة إلى طعام". هذا ما أخبرني به عبد الرحمن، الذي التقيت به في مدينة خان يونس جنوب غرب قطاع غزة. كان واقفا في حشد تجمع حول رجال يسكبون الأرز الساخن في أوعية أخرجتها أيدي الغزاويين اليائسين. وكان أحد الصبية يبكي خوفا من نفاد الطعام الذي يوفره برنامج الأغذية العالمي قبل أن يحين دوره.

وقال عبد الرحمن، "كنت طموحا وكانت لدي أحلام"، واصفا آماله التي تحطمت مثل المباني المحيطة بنا، "لكنني بحاجة إلى طعام، وليست لدي القدرة على شراء الخبز".

كنت قد وصلت إلى غزة في اليوم السابق، بعد رحلة استغرقت عشر ساعات من عـَمان في حافلة مليئة بالعاملين الإنسانيين. وقضيت بعض ذلك الوقت في الانتظار عند الجانب الإسرائيلي من معبر كرم أبو سالم ــ أحد السبل القليلة المتاحة لتوصيل المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة إلى القطاع.

جوناثان دومونت من برنامج الأغذية العالمي في غزة، حيث يواجه تقديم المساعدات الإنسانية تحديات كبيرة.
© WFP/Jonathan Dumont
جوناثان دومونت من برنامج الأغذية العالمي في غزة، حيث يواجه تقديم المساعدات الإنسانية تحديات كبيرة.

كان هناك تراكم هائل من الإمدادات المطلوبة بشكل عاجل ــ بما في ذلك صناديق الأدوية والأغذية وغيرها من المساعدات ــ في انتظار التصاريح والقليل من الشاحنات المتاحة والسائقين المرخص لهم القادرين على السير عبر الطرق المدمرة والحشود اليائسة والعصابات المسلحة لتوصيلها.

كانت زيارتي لغزة التي استغرقت عشرة أيام في أوائل كانون الأول/ديسمبر هي الأولى لي منذ اندلاع الحرب قبل خمسة عشر شهرا تقريبا. وبصفتي رئيسا لقسم الاتصالات الطارئة في برنامج الأغذية العالمي، فإن وظيفتي هي الاستماع وتسجيل وإيصال قصص الناس في أماكن مثل غزة ــ لإعطاء صوت لأولئك الذين ما كان ليُسمَع صوتهم لولا ذلك.

غزة – وهي بحجم مدينة ديترويت الأميركية – أصبحت اليوم عبارة عن جبل من الأنقاض. لقد زرت العديد من مناطق الصراع في العام الماضي ــ هايتي التي دمرتها العصابات، وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، والخرطوم عاصمة السودان التي مزقتها الحرب ــ ولكن غزة على نطاق مختلف. فمن ناحية، تضرب الأمواج شاطئ البحر الأبيض المتوسط، في وهم من الهدوء. ومن ناحية أخرى يكمن الدمار الذي لا نهاية له، والدخان الأسود الذي يتصاعد من المباني المشتعلة.

وهناك فرق آخر عن العديد من مناطق الحرب: فلا سبيل أمام سكان غزة للهروب من الصراع. إنهم محاصرون.

الجوع يتصاعد بشكل صاروخي. فوفقا لأحدث النتائج التي توصل إليها الخبراء، يواجه أكثر من 90 في المائة من السكان انعدام الأمن الغذائي عند مستوى الأزمة أو أسوأ، وأكثر من 300 ألف شخص يعانون من الجوع الكارثي على الأرجح ــ وهو أعلى مستوى من انعدام الأمن الغذائي.

"الناس جائعون وغاضبون"

الغذاء الذي يسمح بدخوله إلى القطاع من قِبَل برنامج الأغذية العالمي لا يفي إلا بثلث ما نحتاج إليه للوصول إلى أشد الناس جوعا. وعلى مدى أشهر، اضطررنا إلى خفض الحصص الغذائية، ثم خفضها مجددا. وفي كانون الأول/ ديسمبر، خططنا للوصول إلى 1.1 مليون شخص بما يكفي من الغذاء لمدة عشرة أيام فقط، بما في ذلك المواد المعلبة ومعجون الطماطم والزيت ودقيق القمح.

شمال غزة المحاصر هو المكان الأكثر جوعا، وعلى مدى الشهرين الماضيين، لم يُسمح إلا بالكاد بدخول أي إمدادات. أخبرني الخباز غطاس حكورة في مخبز تجاري يدعمه برنامج الأغذية العالمي في مدينة غزة أن الخبز "هو الغذاء الأكثر أهمية للناس في الوقت الحاضر، لأنه رخيص للغاية".

وفيما كان الرجال والنساء يلتقطون أرغفة الخبز، التي تكلف ثلاثة شيكل، أو أقل من دولار أميركي واحد لكل ربطة، في طابورين منفصلين خاضعين لنظام مشدد، قال السيد حاكورة: "الناس جائعون وغاضبون. لقد فقدوا منازلهم ووظائفهم وأسرهم. لا توجد لحوم ولا خضروات - وإذا وُجدت خضروات، فهي باهظة الثمن للغاية".

كما هو الحال معظم قطاع غزة، لم يتبق في خانيونس سوى عدد قليل من المباني التي يزيد ارتفاعها عن أربعة طوابق.
© WFP/Jonathan Dumont
كما هو الحال معظم قطاع غزة، لم يتبق في خانيونس سوى عدد قليل من المباني التي يزيد ارتفاعها عن أربعة طوابق.

قد يصل سعر كيس دقيق القمح الذي يزن 25 كجم إلى 150 دولارا أمريكيا. في القطاع الذي كان المزارعون يحصدون فيه الحمضيات والخضراوات والفراولة، رأيت فلفلا صغيرا يُباع في سوق بمدينة غزة مقابل 195 دولارا أمريكيا للكيلو. لم يكن أحد يشتري، فلا أحد يستطيع تحمل التكلفة.

"أريد مستقبلا لأطفالي كأي طفل عربي"

أخبرني إبراهيم البلوي أن ابنته الصغيرة التي كان يحتضنها لم تشرب كوبا من الحليب في حياتها، لم تعرف شيئا سوى الحرب. هذا مصدر قلق للعديد من الآباء في غزة، المكان الذي تسمع فيه أصوات الطائرات المسيرة والانفجارات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، قادمة من الجو والبر والبحر.

هند حسونة هي أم لأربعة أطفال، قالت لي بعد توزيع للطعام من قبل برنامج الأغذية العالمي في خان يونس: "أريد أن يكون مستقبل أطفالي مماثلا لأي طفل آخر يعيش في أي دولة عربية، أن يعيشوا حياة كريمة، وأن يرتدوا ملابس لائقة، وأن يتناولوا طعاما لائقا، وأن ينعموا بحياة طيبة. والأمر الأكثر أهمية هو أن يتحرروا من الخوف ــ تماما مثل أي طفل في أي دولة عربية".

طفل صغير يلتقط آخر حبات الأرز في وعائه. الجوع يتفاقم في غزة، وكميات الغذاء التي يسمح لبرنامج الأغذية العالمي بادخالها محدودة.
© WFP/Jonathan Dumont
طفل صغير يلتقط آخر حبات الأرز في وعائه. الجوع يتفاقم في غزة، وكميات الغذاء التي يسمح لبرنامج الأغذية العالمي بادخالها محدودة.

يمشي أطفال السيدة حسونة مسافة 1.5 كيلومتر في كل اتجاه لجلب الماء اليوم. وبينما كانت تتحدث في خيمتها التي يمكن أن تنهار بسهولة بفعل الرياح أو تغمرها مياه الأمطار الشتوية، كانوا يتناولون حصصهم الصغيرة من أرز وفره برنامج الأغذية العالمي. ربما كانت هذه وجبتهم الوحيدة لذاك اليوم، وكان طفلها الصغير ينظف طبقه ببطء من كل حبة أرز بابتسامة صغيرة على وجهه.

يعايش أطفال غزة أسوأ أهوال الحرب. فبينما كنا نقود السيارة إلى مركز توزيع الغذاء في خان يونس، رأيت حصانا ميتا وسط الأنقاض، في جواره، كانت فتاة صغيرة تبحث في القمامة عن الطعام.

في وقت لاحق، أثناء قيادتنا إلى مدينة غزة في سيارتنا المدرعة، رأينا جثثا متناثرة على اليسار واليمين تتحلل في الشمس على طول ممر نتساريم العسكري - الذي يفصل بين شمال وجنوب القطاع. وبعد بضع مئات الأمتار، رأينا مجموعة صغيرة من النساء والأطفال يتوجهون في ذلك الاتجاه، وبدوا متعبين وهم يحملون أمتعتهم.

كيف ستؤثر مثل هذه التجارب على أطفال غزة عندما يكبرون؟ ماذا سيحدث لجيلهم؟

أبو بلال أمام ملجأه الذي بناه تحت لوحين إسمنتيين من مبنى شقته السابق.
© WFP
أبو بلال أمام ملجأه الذي بناه تحت لوحين إسمنتيين من مبنى شقته السابق.

محاولات للاستمرار

في خضم الدمار، يتمسك أهل غزة بأي مظهر من مظاهر الحياة. ففي خان يونس، حفر أبو بلال منزله المدمر، واستخدم الأنقاض لإعادة بناء الجدران. شكلت ألواح الأسمنت من مبنى سكني متعدد الطوابق مظلة هشة. اصطحبني في جولة في منزله، الذي يضم مرحاضا أساسيا ومغسلة بلاستيكية مؤقتة. ووصف ملجأه بالـ "خطير" حيث قد ينهار بسهولة بفعل عاصفة أو غارة جوية.

وفي حي كان مكتظا بالسكان، أراني نبيل عزب أيضا بقايا منزله. أشار سائق الأجرة السابق إلى الهيكل الملتوي للسيارة التي كان يكسب رزقه منها ذات يوم. كباقي أسر غزة، نزحت عائلته عدة مرات وانتقلت من مخيم إلى آخر.

نبيل عزب (يمين الصورة) يقف بالقرب من المساحات الخضراء التي تعتني بها عائلته، وخلفه بقايا المبنى السكني الذي لا تزال عائلته تعيش فيه رغم الخطر.
© WFP
نبيل عزب (يمين الصورة) يقف بالقرب من المساحات الخضراء التي تعتني بها عائلته، وخلفه بقايا المبنى السكني الذي لا تزال عائلته تعيش فيه رغم الخطر.

عندما ضربت غارة جوية خيمته في مدينة رفح الجنوبية وأصابته وأفرادا آخرين من أسرته، نفد صبره، وقامت عائلته أيضا بإزالة الأنقاض من منزلها المدمر جزئيا في خان يونس وعادت إليه. يعد المبنى المكون من أربعة طوابق من بين المباني القليلة التي لا تزال قائمة في المنطقة، ويميل بشكل خطير فوق تلة رملية. تقوم العائلة بزراعة الخس والخضراوات الأخرى في الأرض تحت العمارة ليسدوا جوعهم، إلا أنها غير ليست كافية.

قال السيد عزب: "أنظر إلى ابنتي الصغيرة وهي تبكي وتطلب الطعام وأشعر بالعجز. لا يوجد شيء يمكنني فعله من أجلها. لا شيء على الإطلاق".